الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال الخازن: .قال أبو حيان: وارتفع براءة على الابتداء، والخبر إلى الذين عاهدتم. ومن الله صفة مسوغة لجواز الابتداء بالنكرة، أو على إضمار مبتدأ أي: هذه براءة. وقرأ عيسى بن عمر براءة بالنصب. قال ابن عطية: أي الزموا، وفيه معنى الاغراء. وقال الزمخشري: اسمعوا براءة. قال: (فإن قلت): بم تعلقت البراءة، بالله ورسوله والمعاهدة بالمسلمين؟ (قلت): قد أذن الله تعالى في معاهدة المشركين أولًا، فاتفق المسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاهدوهم، فلما نقضوا العهد أوجب الله تعالى النبذ إليهم، فخوطب المسلمون بما تجدّد من ذلك فقيل لهم: إعلموا أنّ الله تعالى ورسوله قد برئا مما عاهدتم به المشركين. وقال ابن عطية: لما كان عهد الرسول صلى الله عليه وسلم لازمًا لجميع أمته حسن أن يقول: عاهدتم. وقال ابن إسحاق وغيره: كانت العرب قد أوثقها رسول الله صلى الله عليه وسلم عهدًا عامًا على أنّ لا يصدّ أحد عن البيت الحرام ونحو هذا من الموادعات، فنقض ذلك بهذه الآية، وأحل لجميعهم أربعة أشهر، فمن كان له مع الرسول عهد خاص وبقي منه أقل من الأربعة أبلغ به تمامها، ومن كان أمده أكثر أتمّ له عهده، وإذا كان ممن يحتبس منه نقض العهد قصر على أربعة أشهر، ومن لم يكن له عهد خاص فرضت له الأربعة يسيح في الأرض أي: يذهب فيها مسرحًا آمنًا. وظاهر لفظة من المشركين العموم، فكل من عاهده المسلمون داخل فيه من مشركي مكة وغيرهم. وروي أنهم نكثوا إلاّ بني ضمرة وكنانة فنبذ العهد إلى الناكثين. وقال مقاتل: المراد بالمشركين هنا ثلاث قبائل من العرب: خزاعة، وبنو مدلج، وبنو خزيمة. وقيل: هذه الآية في أهل مكة، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم صالح قريشًا عام الحديبية على أنْ يضعوا الحرب عشر سنين يأمن فيها الناس، فدخلت خزاعة في عهد الرسول، وبنو بكر بن عبد مناة في عهد قريش، وكان لبني الديل من بني بكر دمٌ عند خزاعة فاغتنموا الفرصة وغفلة خزاعة، فخرج نوفل بن معاوية الديلي فيمن أطاعه من بني بكر وبيتوا خزاعة فاقتتلوا، وأعانت قريش بني بكر بالسلاح، وقوم أعانوهم بأنفسهم، فهزمت خزاعة إلى الحرم، فكان ذلك نقضًا لصلح الحديبية، فخرج من خزاعة بديل بن ورقاء وعمرو بن سالم في ناس من قومهم، فقدموا على الرسول صلى الله عليه وسلم مستغيثين، وأنشده عمرو فقال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا نصرت إنْ لم أنصركم» فتجهز إلى مكة وفتحها سنة ثمان، ثم خرج إلى غزوة تبوك وتخلف من تخلف من المنافقين وأرجفوا الأراجيف، فجعل المشركون ينقضون عهودهم، فأمره الله تعالى بإلقاء عهدهم إليهم، وأذن في الحرب فسيحوا أمر إباحة، وفي ضمنه تهديد وهو التفات من غيبة إلى خطاب أي: قلْ لهم سيحوا. يقال: ساح سياحة وسوحًا وسيحانًا، ومنه سيح الماء وهو الجاري المنبسط. وقال طرفة: قال ابن عباس والزهري: أول الأشهر شوال حتى نزلت الآية، وانقضاؤها انقضاء المحرم بعد يوم الأذان بخمسين، فكان أجل من له عهد أربعة أشهر من يوم النزول، وأجل سائر المشركين خمسون ليلة من يوم الأذان. وقال السدّي وغيره: أولها يوم الأذان، وآخرها العشر من ربيع الآخر. وقيل: العشر من ذي القعدة إلى عشرين من شهر ربيع الأول، لأن الحج في تلك السنة كان في ذلك الوقت للنسيء الذي كان فيهم، ثم صار في السنة الثانية في ذي الحجة غير معجزي الله لا تفوتونه وإنْ أملهكم وهو مخزيكم أي: مذلكم في الدنيا بالقتل والأسر والنهب، وفي الآخرة بالعذاب. وحكى أبو عمرو عن أهل نجران: أنهم يقرأ ون من الله بكسر النون على أصل التقاء الساكنين، واتباعًا لكسرة النون. اهـ. .قال أبو السعود: ولا يخفى أن البراءةَ إنما تتعلق بالعهد لا بالإذن فيه فنُسبت كلُّ واحدة منهما إلى من هو أصلٌ فيها على أن في ذلك تفخيمًا لشأن البراءةِ وتهويلًا لأمرها وتسجيلًا على الكفرة بغاية الذلِّ والهوانِ ونهايةِ الخِزْيِ والخِذلان وتنزيهًا لساحة السبحان والكبرياءِ عما يوهم شائبةَ النقصِ والبداء تعالى عن ذلك علوًا كبيرًا وإدراجُه عليه الصلاة والسلام في النسبة الأولى وإخراجُه عن الثانية لتنويه شأنه الرفيعِ وإجلالِ قدرِه المنيع في كلا المقامين صلى الله عليه وسلم، وإيثارُ الجملة الاسميةِ على الفعلية كأن يقال: قد بِرئ الله ورسولُه من الذين أو نحوُ ذلك للدلالة على دوامها واستمرارِها وللتوسل إلى تهويلها بالتنوين التفخيميِّ كما أشير إليه. اهـ. .قال الألوسي: وقرأ عيسى بن عمرو {بَرَاءةٌ} بالنصب وهي منصوبة باسمعوا أو الزموا على الإغراء، وقرأ أهل نجران {مِنَ الله} بكسر النون على أن الأصل في تحريك الساكن الكسر، لكن الوجه الفتح مع لام التعريف هربًا من توالي الكسرتين، وإنما لم يذكر ما تعلق به البراءة حسبما ذكر في قوله تعالى: {أَنَّ الله بَرِىء مّنَ المشركين} [التوبة: 3] اكتفاءً بما في حيز الصلة فإنه منبئ عنه إنباءً ظاهرًا واحترازًا عن تكرار لفظ من، والعهد العقد الموثق باليمين، والخطاب في {عاهدتم} للمسلمين وقد كانوا عاهدوا مشركي العرب من أهل مكة وغيرهم بإذن الله تعالى واتفاق الرسول صلى الله عليه وسلم فنكثوا إلا بني ضمرة وبني كنانة، وأمر المسلمون بنبذ العهد إلى الناكثين وأملهوا أربعة أشهر ليسيروا حيث شاءوا. وإنما نسبت البراءة إلى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم مع شمولها للمسلمين في اشتراكهم في حكمها ووجوب العمل بموجبها وعلقت المعاهدة بالمسلمين خاصة مع كونها بإذن الله تعالى واتفاق الرسول عليه الصلاة والسلام للإنباء عن تنجزها وتحتمها من غير توقف على رأي المخاطبين لأنها عبارة عن إنهاء حكم الأمان ورفع الخطر المترتب على الع، السابق عن التعرض للكفرة وذلك منوط بجانب الله تعالى من غير توقف على شيء أصلًا، واشتراك المسلمين إنما هو على طريق الامتثال لا غير، وأما المعاهدة فحيث كانت عقدًا كسائر العقود الشرعية لا تتحصل ولا تترتب عليها الأحكام إلا بمباشرة المتعاقدين على وجه لا يتصور صدوره منه تعالى وإنما الصادر عنه سبحانه الإذن في ذلك وإنما المباشر له المسلمون، ولا يخفى أن البراءة إنما تتعلق بالعهد لا بالإذن فيه فنسبت كل واحدة منهما إلى من هو أصل فيها، على أن في ذلك تفخيمًا لشأن البراءة وتهويلًا لأمرها وتسجيلًا على الكفرة بغاية الذل والهوان ونهاية الخزي والخذلان، وتنزيهًا لساحة الكبرياء عما يوهم شائبة النقص والبداء تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا، وأدراجه صلى الله عليه وسلم في النسبة الأولى وإخراجه عن الثانية لتنويه شأنه الرفيع صلى الله عليه وسلم في كلا المقامين كذا حرره بعض المحققين وهو توجيه وجيه. وزعم بعضهم أن المعاهدة لما لم تكن واجبة بل مباحة مأذونة نسبت إليه بخلاف البراءة فإنها واجبة بإيجابه تعالى فلذا نسبت للشارع وهو كما ترى. وذكر ابن المنير في سر ذلك أن نسبة العهد إلى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم في مقام نسب فيه النبذ من المشركين لا يحسن أدبًا. ألا ترى إلى وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمراء السرايا حيث يقول لهم: «إذا نزلتم بحصن فطلبوا النزول على حكم الله تعالى فأنزلوهم على حكمكم فانكم لا تدرون أصادفتم حكم الله تعالى فيهم أم لا، وإن طلبوا ذمة الله تعالى فأنزلوهم على ذمتكم فلأن تخفر ذمتكم خير من أن تخفر ذمة الله تعالى» فانظر إلى أمره صلى الله عليه وسلم بتوقير ذمة الله تعالى مخافة أن تخفر وإن كان لم يحصل بعد ذلك الأمر المتوقع، فتوقير عهد الله تعالى وقد تحقق من المشركين النكث وقد تبرأ منه تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام بأن لا ينسب العهد المنبوذ إليه سبحانه أحرى وأجدر فلذلك نسب العهد للمسلمين دون البراءة منه ولا يخلو عن حسن إلا أنه غير واف وفاء ما قد سبق، وقيل: إن ذكر الله تعالى للتمهيد كقوله سبحانه: {لاَ تُقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَىِ الله وَرَسُولِهِ} [الحجرات: 1] تعظيمًا لشأنه صلى الله عليه وسلم ولولا قصد التمهيد لأعيدت {مِنْ} كما في قوله عز وجل: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ الله وَعِندَ رَسُولِهِ} [التوبة: 7] وإنما نسبت البراءة إلى الرسول عليه الصلاة والسلام والمعاهدة إليهم لشركتهم في الثانية دون الأولى. وتعقب بأنه لا يخفى ما فيه فإن من برأ الرسول عليه الصلاة والسلام منه تبرأ منه المؤمنون، وما ذكر من إعادة الجار ليس بلازم، وما ذكره من التمهيد لا يناسب المقام لضعف التهويل حينئذ، وقيل: ولك أن تقول: إنه إنما أضاف العهد إلى المسلمين لأن الله تعالى علم أن لا عهد لهم وأعلم به رسوله عليه الصلاة والسلام فلذا لم يضف العهد إليه لبراءته منهم ومن عهدهم في الأزل، وهذه نكتة الإتيان بالجملة اسمية خبرية وإن قيل: إنها إنشائية للبراءة منهم ولذا دلت على التجدد. وفيه أن حديث الأزل لا يتأتى في حق الرسول عليه الصلاة والسلام ظاهرًا وبالتأويل لا يبعد اعتبار المسلمين أيضًا، ونكتة الإتيان بالجملة الاسمية وهي الدلالة على الدوام والاستمرار لا تتوقف على ذلك الحديث فقد ذكرها مع ضم نكتة التوسل إلى التهويل بالتنكير التفخيمي من لم يذكره. اهـ.
|